أسئلة في المنهج والمقاربة
كتب الأستاذ أحمد السيد النجار مقالاً بالأهرام بتاريخ ٨ أكتوبر الجاري بعنوان ”ماذا يريد الغرب من اقتصاد الجيش؟“ فنّد فيه، الاقتصادي المعروف، ما اعتبره دعاية غربية سلبية يتبناها بعض المصريين بشأن تضخم اقتصاد الجيش المصري معتبراً أن مثل هذه الدعاية والادعاءات تستهدف النيل من آخر الجيوش العربية القائمة في المنطقة، بعد تفكيك الجيش العراقي وإدخال سوريا في حرب أهلية لا تبدو لها نهاية حتى الآن. واعتبر النجار أن الدفع بأن الجيش المصري يملك ٤٠٪ من الاقتصاد المصري هو محض افتراء. واعتمد النجار على البيانات المتاحة من البنك الدولي حول هيكل الناتج المحلي الإجمالي في مصر، وخلص النجار من خلال تتبّع التقسيم القطاعي للناتج إلى أن نصيب القطاع الخاص يبلغ نحو ٦٢٪ من الناتج المحلي السنوي، وأن تقدير نصيب القطاع العام المدني يقف عند ٣٦٪ ما يجعل نصيب القطاع العام العسكري (المملوك والمدار من قبل القوات المسلحة) لا يتجاوز ١٨٪ من الناتج المحلي، وهي نسبة تقل عن نصف الرقم الذي يتداوله باحثون غربيون عن نصيب الجيش من الناتج. وعمد النجار لمقياس آخر لوزن الجيش الاقتصادي، وهو نصيب الإنفاق العسكري من الناتج المحلي، والذي لا يتجاوز طبقاً للمصادر الرسمية ٢٪، وهي نسبة بالفعل زهيدة مقارنة بالعديد من دول العالم، خاصة في الشرق الأوسط كإسرائيل وإيران أو تركيا.
والحق إني أتعجب من إقدام النجار على القطع على هذا النحو بنصيب دقيق للجيش في الناتج المحلي الإجمالي، والمسألة ليست في الرقم أو الحد الذي توصل إليه بحساباته إنما في إمكانية التوصل لأي تقدير، كبر أم صغر، في ظل غياب أية بيانات أو معلومات يمكن التعويل عليها. فأغلب الظن أن القول بأن الجيش يملك ٤٠٪ من اقتصاد مصر هو محض هراء وأمر شديد المبالغة ولا يستند لأي أدلة، بل إن التوصيف نفسه "اقتصاد الجيش" غير واضح فهل المقصود به نصيب الجيش من الدخل القومي، أو الناتج المحلي، أم مجموع ما يملكه من ثروات وأصول تراكمت عبر السنوات، ويتم احتساب قيمتها كنسبة من الناتج المحلي؟ ولكن نقد هذا الدفع يكون بتحري الأدلة والأسانيد التي بُني عليها لا بالدفع بتقدير مقابل لا يستند هو الآخر لأية بيانات أو معلومات ذات مصداقية أو دقة.
فبادئ ذي البدء لا يجوز الاعتماد على الرقم الواحد الوارد في الموازنة السنوية للدولة حول مخصصات الدولة للإنفاق العسكري، لأن هذا الرقم الواحد، دون الخوض في مدى صحته، لا يعبر سوى عما يتم تخصيصه من الخزانة للقوات المسلحة، ولكنه لا يعبر عن مجمل إيرادات القوات المسلحة التي قد تشتمل، وهي حتماً كذلك، على مصادر أخرى غير المخصصات الواردة من الحكومة المركزية مثل المساعدات والمنح الأجنبية، وإيرادات المشروعات الاقتصادية، ولعل قيام القوات المسلحة بتحويل مليار دولار في ٢٠١١ للبنك المركزي لدعم الاحتياطيات النقدية الأجنبية الآخذة في التناقص وقتذاك تشير إلى وجود احتياطيات دولارية منفصلة للقوات المسلحة لا تخضع لرقابة البنك المركزي ولا الجهاز المركزي للمحاسبات ولا وزارة المالية، وبالطبع ليس هناك شك في أن مؤسسة كالقوات المسلحة قد تكون بحاجة لحيازة احتياطياتها الدولارية لأغراض التوريد للسلاح والمستلزمات وغيره فهذا ليس مطروحاً للنقاش هنا إنما محل النقاش الحقيقي هو أن جهة في مصر، باستثناء القوات المسلحة نفسها، لا تملك حصراً أو سجلاً بإيرادات القوات المسلحة السنوية، وأن جل ما نملكه هو الرقم الواحد الوحيد الذي يرد في الموازنة العامة، والذي قد لا يعبر بالمناسبة عن إجمالي المخصصات الحكومية إذا ما أخذنا في الاعتبار أن ثمة مصروفات سرية تذهب لمؤسسات الدولة السيادية، ولا يتم الكشف عن تفاصيل الجهات المتلقية لهذه المخصصات، وللدكتور عبد الخالق فاروق إسهام هام في هذا الصدد في كتابه جذور الفساد الإداري في مصر حول الحسابات المجمعة التي يتم إيرادها في الموازنة في الباب السادس دون بيان تفاصيل المخصصات أو الجهات التي تتلقاها. إن الخلاصة هي أنه ليس بالإمكان القطع بحجم الإيرادات السنوية التي تحصل عليها القوات المسلحة والجهات الاقتصادية والخدمية التابعة لها.
إلى جانب نقص المعلومات عن الإيرادات الفعلية للجيش فإن ثمة مشكلة منهجية من الأصل تواجه حساب دور الجيش الاقتصادي في بلدان يضطلع فيها الجيش بأدوار اقتصادية واجتماعية وسياسية متعددة كمصر وتركيا وباكستان والصين وغيرها من بلدان العالم النامي. إذ إنّ المقاييس الموضوعة دولياً كنصيب الإنفاق العسكري من الناتج المحلي تخص بالأساس دول حلف شمال الأطلنطي، وغيرها من البلدان التي تحظى فيها المالية العامة للدولة بقدر كبير من الشفافية من ناحية، وتحظى علاقات الملكية فيها بوضوح قانوني وفصل تام بين الملكية العامة والملكية الخاصة. أما في بلدان كمصر فإنّ معياراً كهذا يخلو من أمرين: أولهما أن القوات المسلحة تقوم بدور اقتصادي في الإنتاج والتوزيع لسلع وخدمات، وهو ما يجعلها من الناحية الفعلية قريبة من دور الشركات، ومن هنا فإن أفضل مقاربة لدورها الاقتصادي لا تكون باحتساب إيراداتها أو نصيبها من الناتج المحلي بل بالنظر لمركزها المالي، والمركز المالي هو حساب مفصل لجانبي أصول وخصوم أي كيان اقتصادي يشتمل على الأصول التي تراكمت على مدى فترة زمنية معينة، وليس فحسب على الإيراد السنوي أو الأرباح أو الدخل النقدي. وقضية الأصول الثابتة هنا غاية في الأهمية لأنها تشير لأراض أو مبان وغيرها من العقارات التي قد يحوزها الكيان الاقتصادي لأغراض إنتاجية، ولا يتم رصدها بحال من الأحوال في الإيراد السنوي المتولد عنها، وهذا هو الفارق الاقتصادي النظري بين الدخل والثروة فبينما الدخل متجدد ويتم احتسابه بشكل سنوي، فإن الثروة تراكمية ويتم احتسابها على مدى زمني أطول. وبالقطع ليس لدى أية جهة في مصر أو غيرها حصر بالأصول التي تملكها القوات المسلحة من عقارات، ومما يزيد الأمر تعقيداً أنه ما من جهة لديها حصر أو سجل بالأصول التي يتم استخدامها لأغراض اقتصادية في إنتاج سلع أو خدمات يتم تداولها في السوق. قد تكون هناك أدلة جزئية تتمثل في شركة هنا أو محطة وقود هناك أو منتجات مدنية من مصانع القوات المسلحة الحربية، أو قرى تابعة للقوات المسلحة أو أفرع وأجهزة بها، ولكن هذه الدولة الجزئية لا تفيد عند محاولة الوصول لتقدير إجمالي لدور الجيش اقتصادياً. ومن نافلة القول إن الأصول التي تحوزها القوات المسلحة في مصر وخاصة الأراضي تؤثر تأثيراً كبيراً على فرص نمو القطاع الخاص لأنها تقيد ولو جزئياً إتاحة مثل هذه الأصول للفاعلين المتنافسين في السوق، وتؤسس لوضع متميز لجهات تابعة للدولة باسم الدفاع والأمن القومي في الوصول لهذه الأصول الإنتاجية رغم أنها في نهاية المطاف تستخدم لأغراض إنتاجية عادية ما يخلق وضعاً يخرق التنافس الحر سواء في الوصول للأصول الإنتاجية، أو في احتلال مواقع شبه احتكارية في السوق.
أما التحفظ المنهجي الآخر عند احتساب الدور الذي يلعبه الجيش في الاقتصاد فهو أن علاقات الملكية في اقتصادات العالم النامي غير واضحة المعالم، فالقوانين عادة ما تكون شديدة الضعف سواء في الصياغة أو عند التطبيق، وحقوق الملكية الخاصة ليست واضحة الفصل عن الملكية العامة، ومما يزيد من تعقيدات المشهد غياب أية معلومات دقيقة عن شركات عاملة في السوق تتبع جهات سيادية لأنها تجمع واقع الحال بين صفتي "الأمن القومي"، الذي يحد من تداول المعلومات حولها، وبين الصفة التجارية كشركات تنخرط في إنتاج وتوزيع السلع والخدمات. ويظهر هذا الأمر بجلاء في عدد من الأمثلة، التي غالباً ما تشكل قمة جبل الثلج، على رأسها جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، والذي يضطلع بتنفيذ مشروعات للبنية الأساسية كالطرق والجسور والمرافق العامة، ورغم أن هذا يضعه فعلياً في منافسة مع شركات المقاولات الأخرى العامة أو الخاصة إلا أنه يعامل على أنه جزء من القوات المسلحة فليست ثمة معلومات عنه كمنشأة اقتصادية، ولا عن العمالة المستخدمة فيه، وأغلبها من المجندين والمهندسين العسكريين، ومن المثير أن هذا المثال نفسه قد ورد ذكره في مقالة النجار المشار إليها.
ويضاف للمثال السابق الدور الاقتصادي الذي تلعبه بعض الجهات السيادية الأخرى كالمخابرات العامة في قطاعات اقتصادية كالغاز الطبيعي والبترول أو الاتصالات، وذلك من خلال شركات تقع في المنطقة الرمادية بين الملكية الخاصة والعامة، وتحظى بتسهيلات ائتمانية وفي الولوج للأسواق باعتبارها جهات سيادية رغم أنها تؤدي أغراضاً اقتصادية، وفي الوقت نفسه تتمتع بحجب المعلومات الخاصة بها وبمعاملاتها. ومعروف للجميع مثلا أن الشركة الحائزة لحوالي ٧٠٪ من سعة الإنترنت في مصر مملوكة بشكل ما للمخابرات العامة، والتي تتمتع بصلاحيات واسعة للغاية في ضبط وتنظيم هذا القطاع الحيوي لأغراض الأمن القومي، ولديها حضور محسوب في جهاز تنظيم الاتصالات، وهنا يتم خلط الأدوار التنظيمية والتجارية والأمنية. وينطبق الأمر نفسه على قطاع الغاز الطبيعي ففي الأقوال التي أدلت بها قيادات وزارة البترول والهيئة العامة للبترول والشركات التابعة لها في قضية تصدير الغاز لإسرائيل أفاد رئيس الهيئة الأسبق أن المخابرات كانت تملك، بشكل ما من خلال وسطاء، شركة وسيطة لتصدير الغاز للأردن (شركة الشرق)، كما تحدث بعضهم عن حالة سابقة في التسعينيات، وهي مصفاة ميدور التي جمعت بين رجال أعمال مصريين وإسرائيليين في إطار التطبيع بين البلدين، وكان بالطبع في مقدمة المالكين حسين سالم، رجل المخابرات السابق، والذي حصل على تسهيلات ائتمانية واسعة للدخول في هذا المشروع. وتكفي أقوال اللواء عمر سليمان في القضية ذاتها للوقوف على حقيقة أن سليمان كان هو المسئول الفعلي عن ملف تصدير الغاز لإسرائيل بحكم موقعه كرئيس للمخابرات العامة رغم أن المسئول الأول، قانونياً، هو رئيس الوزراء ووزير البترول، ولكن من الناحية الفعلية كان سليمان هو المخول بالتفاوض مع الإسرائيليين في تعديل سعر الغاز المصدر بعد حكم المحكمة الإدارية ببطلان عقد تصدير الغاز لإسرائيل في ٢٠٠٩.
رغم أن الأمثلة السابقة لا تمسُّ القوات المسلحة وحدها إلا أنها تقدم نماذج عدة عن جهات سيادية تلعب دوراً اقتصادياً مباشراً استناداً لصلاحياتها السياسية الواسعة، ويزيد من فرص تحقق هذه النماذج تداخل أنماط الملكية العامة والخاصة، وضعف الأطر التنظيمية للسوق في بلد كمصر، ومع غياب المعلومات والبيانات الأساسية حول الفاعلين الاقتصاديين هؤلاء، وحجم أعمالهم، والمزايا التي يتمتعون بها فإنه من الصعب بمكان الجزم بحجم وأبعاد الدور الاقتصادي الذي يضطلعون به. وتبقى التقديرات التي يدفع بها من يهاجمون دور الجيش السياسي من خلال دوره الاقتصادي، أو من يدافعون عن دوره السياسي بتبرير نشاطه الاقتصادي محض تخمينات مدفوعة بأجندات سياسية قصيرة الأجل لا ترقى لمستوى البحث من منظور الاقتصاد أو الاقتصاد السياسي.